في تاريخ الصحافة العربية، تبرز أسماء قليلة استطاعت أن تنحت لنفسها مكانة خالدة في ذاكرة الأجيال، أحمد عمر، الذي غادرنا عن عمر يناهز الـ85 عاما، كان واحداً من هؤلاء العمالقة الذين نجحوا في صناعة إرث يتجاوز حدود الورق والحبر، ليستقر في قلوب وعقول ملايين الأطفال العرب.
البدايات: من طفل شغوف إلى صحفي طموح
ولد أحمد عمر في 25 سبتمبر عام 1939، في زمن كانت فيه المنطقة العربية تمر بتحولات كبرى، منذ نعومة أظافره، أظهر عمر شغفاً استثنائياً بالقراءة والمعرفة، بدأت رحلته مع الكلمة في "الكتَاب"، حيث حفظ ثلث القرآن الكريم، مؤسساً بذلك علاقة وطيدة مع اللغة العربية استمرت طوال حياته.
كانت المكتبات المدرسية والعامة ملاذه المفضل، ينهل من كتبها المتنوعة بنهم لا يشبع، هذا الشغف قاده لاحقاً إلى دراسة الصحافة في كلية الآداب، ليتخرج منها حاملاً ليسانس الصحافة وأحلاماً كبيرة بتغيير المشهد الإعلامي العربي.
الانطلاقة: من أروقة "الاتحاد" إلى عالم الصحافة الواسع
تخرج أحمد عمر من كلية الآداب ليحصل على شهادة ليسانس الصحافة من جامعة القاهرة، وبدأ مسيرته المهنية في صحيفة "الاتحاد"، حيث كان عضواً في فريقها التأسيسي.
وفي هذا المكان صقل مهاراته الصحفية، وتعلم أصول المهنة، كانت هذه الفترة بمثابة مختبر عملي له، حيث تعرف على تحديات الصحافة في العالم العربي، وبدأ في تطوير رؤيته الخاصة لما يجب أن تكون عليه الصحافة.
لكن القدر كان يخبئ لأحمد عمر دوراً أكبر بكثير مما كان يتخيل، ففي عام 1979، تولى رئاسة تحرير مجلة "ماجد" الإماراتية، وهي الخطوة التي غيرت مسار حياته المهنية، وترك بصمة لا تمحى في تاريخ الصحافة العربية.
"ماجد": من فكرة بسيطة إلى أيقونة ثقافية
كانت فكرة "ماجد "في الأساس بسيطة، لكنها عميقة خلق منبر يعبر عن الطفل العربي، ينمي خياله وعقله في آن واحد، ولدت الفكرة في أروقة صحيفة "الاتحاد"، لكنها سرعان ما تحولت إلى مشروع مستقل تحت قيادة أحمد عمر.
في 28 فبراير 1979، صدر العدد الأول من "ماجد" بـ 5000 نسخة وزعت مجاناً، كان الإقبال على المجلة مذهلاً، إذ اختفت النسخ من الأسواق في لمح البصر، كان هذا إيذاناً ببدء عصر جديد في صحافة الأطفال العربية.
ما ميز "ماجد" عن غيرها من المجلات هو نهجها الفريد، فبدلاً من الاعتماد على الأبطال الخارقين والقصص الخيالية البحتة، اختار عمر وفريقه تقديم شخصية "ماجد" كطفل عادي يعبر عن القيم الإنسانية، هذا النهج جعل المجلة قريبة من قلوب الأطفال ومحببة لدى الآباء في الوقت نفسه.
أكثر من مجرد مجلة: مدرسة في التربية والقيم
على مدار 30 عاماً، قاد أحمد عمر سفينة "ماجد" بحكمة وإبداع لا مثيل لهما، لم تكن المجلة مجرد مطبوعة أسبوعية، بل كانت مدرسة في حد ذاتها، من خلال مقالاته التوجيهية وسيناريوهات القصص المصورة، استطاع عمر أن يغرس القيم الإنسانية في نفوس الأطفال.
كان أحمد عمر يؤمن بأن دور المجلة يتجاوز مجرد التسلية، فقد حرص على تقديم محتوى تعليمي وتثقيفي بأسلوب شيق وجذاب، فكانت صفحات "ماجد" تضم مزيجاً متوازناً من القصص المصورة، والمقالات العلمية المبسطة، والألغاز التي تنمي مهارات التفكير، إضافة إلى زوايا للتواصل مع القراء وتشجيعهم على الإبداع والكتابة.
عاشق الكتب ومؤسس المكتبات: رحلة مع المعرفة
لم يكن أحمد عمر صحفياً فحسب، بل كان قارئاً نهماً وعاشقاً للكتب بشكل لا يوصف، كانت علاقته مع الكتب أشبه بقصة حب خالدة بدأت منذ الصغر، ولم تنته حتى آخر أيامه.
مع مرور السنين، أنشأ عمر مكتبته الخاصة التي ضمت آلاف العناوين، كان يرتاد سوق "سور الأزبكية" الشهير في القاهرة بانتظام، بحثاً عن الكتب النادرة والقيمة، لم تكن هذه الكتب مجرد مقتنيات بالنسبة له، بل كانت رفيقة دربه ومصدر إلهامه الدائم.
كان يقسم مكتبته بعناية فائقة، مرتباً الكتب حسب الموضوعات بطريقة تسهل الوصول إليها، ورغم حبه الشديد لكتبه، كان يسمح لصديق واحد فقط باستعارتها، في دلالة على تقديره العميق للمعرفة المكتوبة وحرصه على الحفاظ عليها.
تأثر عمر بكتابات العديد من الأدباء والمفكرين، مثل نجيب محفوظ ويوسف إدريس وجمال الغيطاني، كما كان مهتماً بالكتابات الفكرية العميقة مثل "رأس المال" لكارل ماركس و"تفسير الأحلام" لسيغموند فرويد، هذا المزيج الثري من القراءات ساعده في تشكيل رؤيته الفكرية وإثراء محتوى "ماجد" بشكل غير مباشر.
تحديات وإنجازات: مسيرة حافلة بالنجاحات
لم تكن رحلة أحمد عمر مع "ماجد" خالية من التحديات، فقد واجه صعوبات في الحفاظ على توازن المحتوى بين الترفيه والتعليم، وفي مواكبة التغيرات السريعة في اهتمامات الأطفال وتقنيات النشر، لكنه استطاع، بفضل مرونته وإبداعه، أن يحافظ على مكانة "ماجد" كواحدة من أهم مجلات الأطفال في العالم العربي.
في عام 2004، حصد أحمد عمر جائزة صحافة الطفل، تكريماً لإسهاماته الكبيرة في هذا المجال، كان هذا التكريم بمثابة اعتراف رسمي بدوره الريادي في تطوير صحافة الأطفال العربية، لكن جائزته الحقيقية، كما كان يقول دائماً، كانت حب الملايين من الأطفال الذين نشأوا على "ماجد" واعتبروها جزءاً لا يتجزأ من طفولتهم.
كما نشر أحمد عمر قصصًا مفردة مصوَّرة للأطفال، ففي عام 2001 وبرسوم مصطفى رحمة نشر قصة كسلان جدا حول العالم وقصص أخرى في 114 صفحة، تحت راية مؤسسة الاتحاد للصِّحافة والنشر، أبو ظبي.
كما نشر أيضا في نفس العام في 128 صفحة، قصص كسلان جدًّا وحكاياته العجيبة، برسوم مصطفى رحمة، إنتاج مؤسسة الاتحاد للصِّحافة والنشر، أبو ظبي.
وفي عام 2009، ترك أحمد عمر رئاسة تحرير مجلة "ماجد" ليسلمها إلى السيدة فاطمة سيف، ولكن لم تتوقف إسهاماته وعطاؤه، فحرص الراحل على تقديم للمجلة قصصا لمجموعة من الشخصيات الكرتونية منها النقيب "خلفان" وشخصية "ذكية ذكية" والعديد من الشخصيات التي تعلق بها الأطفال، وشكلت جزءاً من حياتهم.
وفاة أحمد عمر مؤسس مجلة ماجد
توفي الكاتب أحمد عمر عن عمر يناهز 85 عاما، يوم الجمعة 9 أغسطس 2024، بعد مسيرة كلها عطاء للعالم العربي، حيث شكلت رؤيته أجيال من أطفال العالم العربي، ورائداً في صحافة الأطفال، ومعلماً لأجيال، ورجلاً استطاع أن يصنع من الحروف والرسوم عالماً سحرياً لا ينسى، لكن إرثه يمتد إلى ما هو أبعد من صفحات "ماجد".